هناك أحداث قد تُعيد تشكيل بيئة كاملة، تمامًا كما حدث بعد أزمة الملوحة المسينية، التي أعادت تشكيل التنوع البيولوجي في البحر المتوسط؛ فما القصة؟
ربما لا نستسيغ نحن البشر مذاق مياه البحر المالحة، لكن هناك كائنات حية لا تستطيع العيش إلا في تلك البيئة المالحة للغاية، مثل الأسماك والكائنات البحرية الأخرى. ويُعد البحر الأبيض المتوسط من ضمن البحار الأكثر ملوحة؛ لأنه يتميز بنسبة عالية من الملوحة، كما يقل فيه جريان المياه العذبة. ويتمتع البحر المتوسط بتنوع بيولوجي عالٍ، وتُحيط به قارات العالم القديم الثلاث، قامت على شواطئه الكثير من الحضارات القديمة، ما يجعله واحدًا من ضمن أهم البحار على مستوى العالم.
منذ زمن
كانت هناك أزمة بيئية حدثت في البحر المتوسط قبل 5.5 مليون سنة مضت، كانت تُعرف بـ"أزمة الملوحة المسينية"، التي حدثت تحديدًا بين 5.96 إلى 5.33 مليون سنة مضت، وهي مرحلة مهمة في التاريخ الجيولوجي للأرض؛ إذ تسببت حركات الصخور في عزل البحر المتوسط عن المحيط الأطلسي، وبالتالي تراكم كميات كبيرة من الأملاح. وقد استطاعت الشعوب المختلفة الاستفادة من موارد الملح تلك، وفي البحر المتوسط كانت هناك طبقة من الملح يبلغ سمكها كيلومترًا، واكتُشفت لأول مرة في سبعينيات القرن العشرين.
أرادت مجموعة بحثية دولية قياس معدل فقدان التنوع البيولوجي في البحر المتوسط بعد أزمة الملوحة المسينية، وكيفية تأثر الكائنات الحية البحرية بدرجة ملوحة البحر خلال ذلك الوقت. ووجدوا أنّ الأنواع التي استطاعت النجاة من تلك الأزمة والاستمرار شكلت 11% من فقط. وظلت هناك بعض المشكلات في التنوع البيولوجي، ولم يتعاف نظام البحر المتوسط لفترة 1.7 مليون سنة. ونشر الباحثون نتائجهم في دورية "ساينس" (Science) في 29 أغسطس/آب 2024.
تأثير
استخدم الباحثون حفريات في البلدان حول منطقة البحر المتوسط وفي نوى الرواسب في أعماق البحار، وتتراوح أعمارها ما بين 12 و 3.6 مليون سنة مضت؛ أي أنها تُغطي فترة ما قبل وبعد الأزمة.
توّصل الباحثون إلى أنّ نسبة كبيرة من الأنواع البحرية التي كانت تعيش في البحر المتوسط بعد الأزمة، مختلفة عما كانت عليه قبل الأزمة. ووجدوا أنّ 86 من أصل 779 من الأنواع المستوطنة؛ أي 11% فقط، كانت تعيش في البحر المتوسط قبل الأزمة. وهي الأنواع التي نجت بعد انفصال المتوسط عن المحيط الأطلسي.
أدت التغيرات الحاصلة في المحيط إلى تكوين قوالب ضخمة من الملح؛ تسببت في تغيرات كبيرة في الظروف المحيطة من الملوحة ودرجات الحرارة. كذلك تغيرات في مسارات هجرة الكائنات البحرية، وتأثرت العديد من العمليات الحيوية في النظام البيئي البحري، ما تسبب في انقراض نسبة كبيرة من الأنواع الحية الأصلية في البحر المتوسط خلال تلك الفترة. وعند اتصال المتوسط بالأطلسي مرة أخرى، كانت تلك فرصة جيدة لغزو الأنواع الأخرى، مثل: القرش الأبيض الكبير والدلافين المحيطية. كل هذا أسهم في تشكيل التنوع البيولوجي في البحر المتوسط من جديد.
استغرق تعافي البحر المتوسط فترة يُقدرها العلماء بنحو 1.7 مليون سنة. مع ذلك، هناك الكثير من علامات الاستفهام، والتي يحاول الباحثون إيجاد حلول لها؛ فالبحر المتوسط إحدى أهم النقاط الساخنة عالميًا للتنوع البيولوجي، ودراسته مهمة.