تقارير وتحليلات

نشر في : 17-01-2024

حدثت في : 2024-03-05 16:18:35

بتوقيت ابوظبي

أيمن صالح

تظهر لمسات الدبلوماسية الإماراتية الرفيعة، والخبيرة أيضًا، خلف حزمة إنجازات COP28 بوضوح، تاركة علامات لن تنسى في تاريخ مؤتمر الأطراف.

منذ أن بدأت مؤتمرات الأطراف لأول مرة في عام 1995 بهدف الاستجابة إلى أزمة المناخ العالمية، تلعب الدولة المستضيفة لأي مؤتمر دورًا محوريًا في إدارة المفاوضات بين الدول، في محاولة للوصول إلى قرارات مصيرية تدعم مواجهة البشرية لأزمة المناخ.

طوال 30 عامًا من المفاوضات المناخية، تضمنت 28 نسخة من مؤتمرات الأطراف، من النادر أن يوصف أحد المؤتمرات بأنه "تاريخي" في إنجازاته التي تدفع العمل المناخي للأمام.

 قبل 2023، كانت توصف قمة باريس 2015 بأنها الأهم تاريخيًا، بعدما توصلت لاتفاق باريس، أول اتفاقية مناخية دوليـة مـن نوعهـا تُطبَّـق علـى مسـتوى العالـم وذات طبيعـة ملزمـة، حتى جاءت نسخة دبي لتنافسها على لقب "القمة الأكثر إنجازًا في التاريخ".

الدبلوماسية الإماراتية

من المعروف أن الحكومة المضيفة توفر لمؤتمرات الأطراف أمرين في غاية الأهمية: الأول لوجستي، يتعلق بالجوانب التنظيمية على الأرض، مثل المباني والمرافق والمعدات والخدمات والتسهيلات ليخرج المؤتمر في أفضل صورة ممكنة.

كما توفر قيادة دبلوماسية ترأس المفاوضات وتديرها، لإشراك الحكومات وأصحاب المصلحة من غير الأطراف في المباحثات بهدف إنجاحها.

وفق الأمم المتحدة للمناخ، يضمن رئيس مؤتمر الأطراف مراعاة النظام الداخلي ويعمل مع البلدان قبل وأثناء مؤتمر الأطراف، لتطوير رؤية لأفضل نتيجة ممكنة للمباحثات، والتوصل إلى توافق في الآراء بشأن القضايا الرئيسية.

لا شك أن الدبلوماسية الإماراتية، وبشهادة دولية، حققت نجاحًا تاريخيًا في الأمرين، تنظيم محكم وسلس ومبهر، ونموذج قيادي استثنائي لإدارة المفاوضات الصعبة، التي ضمت 198 دولة، كل منها لديها مواقف وآراء ومصالح مختلفة عن الآخرين، وتستلزم التوصل إلى إجماع بشأن القرارات والمخرجات التفاوضية في المؤتمر.

لم تكن المفاوضات في COP28 سهلة على الإطلاق، خاصة أنها عقدت على خلفية مشهد عالمي متأزم، وصراعات دولية محتدمة، وظروف اقتصادية معقدة، بجانب احترار متزايد وأحداث مناخية متطرفة، تسببت في كوارث إنسانية خلال العامين الماضيين.

بذلت الرئاسة الإماراتية جهودًا مضاعفةً، وتواصلت مع جميع الأطراف المعنية بشكل مكثف، كما تحلى فريق المفاوضين بمهارات دبلوماسية كبيرة لتذليل الصعوبات والحواجز وتقريب وجهات النظر والتوفيق بين الآراء بشأن قرارات ومخرجات القمة، حتى أفضت التجربة في النهاية إلى توافق تاريخي بشأن القضايا المصيرية.

لهذه الأسباب، وغيرها، كان من الطبيعي أن تنتهي القمة بإنجازات استثنائية تجاوزت بنود النص التفاوضي التاريخي الذي أقره الأطراف، وأن تحقق تقدمًا في العديد من المجالات التي تدعم العمل المناخي.

عند التمعن في قراءة نتائج المؤتمر، نجد أن الدبلوماسية الناجحة للإمارات في COP28، تمكنت من تحقيق منجزات لم تعتدها مؤتمرات الأطراف من قبل، ولم يتوقع أحد حدوثها بأي حال من الأحوال، وستظل بلا شك علامات تاريخية في مسيرة مؤتمرات الأطراف.

1- إنجاز من أول جلسة

بعد نحو ساعتين من الجلسة الافتتاحية العامة، أعلن الدكتور سلطان بن أحمد الجابر، وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة بالإمارات رئيس مؤتمر COP28، رسميًا عن تفعيل صندوق الخسائر والأضرار، لمساعدة الدول النامية والضعيفة في مواجهة آثار تغير المناخ.

وسط تصفيق حاد من القاعة الممتلئة بمندوبي الأطراف والمسؤولين، أسدلت الرئاسة الإماراتية الستار عن قضية خلافية بين الدول النامية والمتقدمة، استمرت 30 عامًا دون تقدم.

كانت تلك هي المرة الأولى في تاريخ مؤتمرات الأطراف، التي يتحقق فيها نتيجة جوهرية وإنجاز كبير في أحد البنود الرئيسية للمفاوضات، خلال الجلسة الافتتاحية.

وفق مراقبين، كان التنسيق عالي الكفاءة والأساسيات الدبلوماسية الدقيقة التي وضعتها الرئاسة الإماراتية سببًا في تحقيق هذا الإنجاز، الذي بدد المخاوف التي سيطرت على الكثيرين قبل بداية المؤتمر، من أن تستخدم هذه القضية المثيرة للجدل تاريخياً لعرقلة المفاوضات في دبي.

رغم القرار التاريخي بتأسيس الصندوق في قمة شرم الشيخ، كانت مفاوضات تفعيله على وشك الانهيار، بعدما اجتمعت اللجنة الانتقالية المختصة بوضع توصيات التفعيل 4 مرات خلال عام كامل ولم تصل لنتيجة، بسبب الخلاف بين الدول النامية والغنية على البنود الأساسية.

لم تنجح اللجنة في وضع توصياتها النهائية قبل انعقاد مؤتمر الأطراف إلا بتدخل مباشر من رئاسة دولة الإمارات العربية المتحدة، التي دعت اللجنة لاجتماع خامس وحاسم في أبوظبي، مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني، انتهى بنص توافقي.

في الليلة التي سبقت انعقاد مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين، أنهت رئاسة المؤتمر تنسيقها مع الأطراف كافة، وأصدرت نصًا مقترحًا بناءً على النص المتفق عليه في اجتماع اللجنة الانتقالية النهائي، وفي الجلسة الافتتاحية العامة، سأل الدكتور الجابر القاعة الممتلئة بمندوبي الأطراف والمسؤولين عما إذا كانت هناك أية اعتراضات على النص، فلم يرفع أحد يده.

2- تعهدات مالية لصندوق جديد في أول لحظة

من يعرف تاريخ المفاوضات المناخية جيدًا، يدرك أن مسألة تفعيل الصناديق المناخية وجمع الأموال لها ليس بالأمر السهل على الإطلاق.

على سبيل المثال، استغرق تفعيل صندوق التكيف عام 2007، حوالي 6 سنوات من المفاوضات المناخية، وعندما وافقت الأطراف على إنشاء صندوق المناخ الأخضر في 2010، لم تستطع التوصل إلى فهم لكيفية تمويله، ورغم تفعيله بعد عام واحد فقط، لم يتلق أي تعهدات مالية إلا بعد عامين من دخوله حيز التنفيذ.

كسر COP28 هذه التقاليد، فبعد إطلاق صندوق الخسائر والأضرار، توالت تعهدات التمويل الخاصة به من قبل الدول المتقدمة، ليصل مجموع التعهدات إلى 792 مليون دولار بحلول نهاية المؤتمر، وهو إنجاز غير مسبوق بالطبع، كان مدفوعًا بدبلوماسية خبيرة.

على جانب آخر، يمثل إعلان الدكتور سلطان بن أحمد الجابر عن أن دولة الإمارات العربية المتحدة ستكون أول من يسهم في الصندوق بمبلغ 100 مليون دولار، ثم إعلان ألمانيا في نفس اللحظة عن تعهد آخر قيمته 100 مليون دولار، إنجازًا دبلوماسيًا مهمًا، لم ينتبه له أحد.

ذلك لأن لوائح البنك الدولي المستضيف للصندوق الجديد، تتطلب اكتمال الحد الأدنى للتفعيل، والبالغ 200 مليون دولار، وهو ما تحقق في اللحظات الأولى بالتعهدين الإماراتي والألماني، مما يؤكد دقة التنسيق المسبق من قبل الدبلوماسية الإماراتية بشأن الصندوق.

3- إقرار جدول الأعمال دون معارك

توصف عملية التفاوض على جدول أعمال مؤتمر الأطراف بين المراقبين والمتخصصين دائمًا بـ "المعركة الشرسة"، وذلك لأنه على مدار تاريخ المفاوضات المناخية، شهدت جميع مؤتمرات الأطراف أزمات وصراعات بين الدول حول جدول الأعمال، تسببت أحيانًا في تأخر إقراره لما بعد بدء المباحثات، كما حدث في مفاوضات منتصف العام في بون 2023.

على العكس تمامًا، اتفقت جميع الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ على جدول أعمال المفاوضات الذي قدّمته رئاسة COP28 في أول أيام انعقاد المؤتمر دون صراعات أو خلافات، وهي سابقة لم تحدث من قبل.

نجحت الدبلوماسية الإماراتية في تجنيب المفاوضين ورؤساء الوفود الدخول في صراع على جدول الأعمال في اليوم الأول، من خلال التنسيق المبكر للتوصل إلى حل وسط قبل افتتاح الاجتماع.

اقترح الرئيس الجابر أن تعتمد الهيئات الرئاسية والفرعية جداول أعمالها دون تضمين أي من بنود جدول الأعمال الإضافية التي تقترحها الأطراف، وكان هذا الاقتراح، الذي ينم عن حنكة وخبرة دبلوماسية رفيعة، سببًا في غلق جميع أبواب الصدام والخلافات من الوهلة الأولى.

ولكي يحافظ الجابر على رغبات الأطراف في نفس الوقت، أشار إلى أن بعض البنود المقترحة منهم، يمكن مناقشتها في إطار بنود جدول الأعمال الحالية.

وبدلاً من تصاعد الخلافات والصراعات في الجلسة كالمعتاد، بدأ المندوبون الاجتماع بهدوء، ووافقوا على صيغة الجدول بمجرد إعلانه دون أية اعتراضات.

4- تعهدات مالية غير مسبوقة

لم يذكر تاريخ مؤتمرات الأطراف على الإطلاق أن الدولة المستضيفة نجحت في حشد تمويل يغطي كافة أوجه العمل المناخي، بالقدر الذي حققته قمة دبي.

يؤكد مراقبون أن تقدم المفاوضات في ملف التمويل المناخي خلال COP28، على وجه الخصوص، كان مقياسًا مهمًا لنجاح القمة، وأنه كان مدفوعًا بما سموه "الذكاء المالي الإماراتي".

في انجاز غير مسبوق، نجح المؤتمر في جمع نحو 84 مليار دولار أمريكي، تغطي كافة القطاعات المرتبطة بالعمل المناخي.

يشمل ذلك تلقي تعهدات بقيمة 12.833 مليار دولار أمريكي للصندوق الأخضر، و 187.74 مليون دولار أمريكي لصندوق التكيف، 179.06 مليون دولار أمريكي لصندوق أقل البلدان نموا والصندوق الخاص بتغير المناخ.

كما شهد المؤتمر أكبر تعهد فردي في تاريخ مؤتمر الأطراف، عند إعلان رئاسة دولة الإمارات العربية المتحدة تقديم 30 مليار دولار لصندوق جديد للاستثمار في مشاريع صديقة للمناخ في جميع أنحاء العالم، مع 5 مليارات دولار لجنوب الكرة الأرضية.

5- إشراك صناعة الوقود الأحفوري في العمل المناخي

رغم الارتباط الرئيس بين أزمة المناخ والوقود الأحفوري، لم تنجح أي دولة مستضيفة لمؤتمر الأطراف سابقًا، في إشراك صناعة الوقود الأحفوري في العمل المناخي بشكل يحقق الأهداف المناخية العالمية.

عندما حاولت رئاسة مؤتمر COP28، نشر الوعي بشأن عدم قدرة العالم على مواجهة التحديات المناخية دون إشراك صناعة الوقود الأحفوري، تلقت هجومًا من بعض وسائل الإعلام الغربية.

في النهاية، انتهى مؤتمر COP28 بنتيجة تاريخية تدشن لمرحلة جديدة في إشراك صناعة الوقود الأحفوري في العمل المناخي، بعدما نجحت الدبلوماسية الإماراتية في أقناع 50 شركة تعمل بقطاع النفط والغاز بالتوقيع على تعهد بخفض انبعاثات الميثان إلى الصفر بحلول عام 2030.

يصف مراقبون هذا التعهد بأنه يمثل خطوة بارزة ومهمة في جهود مواجهة الاحترار العالمي؛ ليس فقط لأن خفض الميثان يُعد أسرع طريقة لتقليل معدلات ارتفاع درجات الحرارة في أسرع وقت، بل أيضًا لقدرة رئاسة المؤتمر على انتزاع هذا التوقيع التاريخي من كبرى شركات النفط والغاز بالعالم.

6- توافق صيني أمريكي على طاولة إماراتية

تعتبر الأرضية المشتركة بين الصين والولايات المتحدة، أكبر اقتصادين في العالم وأكبر مصدرين لانبعاثات الغازات الدفيئة، جزءًا مهمًا من توافق في الآراء في مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين.

بجانب أن نصف انبعاثات العالم تصدر عنهما، تتمتع الدولتين بمكانة مهمة في المفاوضات المناخية، إذ تقود واشنطن دول المرفق الأول في مفاوضات المناخ، أي البلدان المتقدمة، بينما تحظى الصين بتأثير كبير داخل مجموعة الـ 77، المظلة الأكبر للدول النامية داخل الأمم المتحدة.

نجحت دولة الإمارات، عبر استضافة القمة الأمريكية الصينية الإماراتية خلال COP28، في توفيق الآراء بين البلدين المهمين للعمل المناخي، بشكل لم يحدث من قبل.

 نتج عن ذلك تقاربًا في مستهدفات خفض انبعاثات غاز الميثان وغازات الدفيئة غير ثاني أكسيد الكربون للحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري على المدى القريب، مع الإعلان عن تمويل بأكثر من 1.2 مليار دولار لدعم جهود خفض انبعاثات غاز الميثان وغازات الدفيئة غير ثاني أكسيد الكربون في الدول النامية.

كما شكّل هذا التوافق عاملاً رئيسياً في التقارب بين الدول الغنية والنامية، ما أسفرت عنه نتائج مهمة واستثنائية.

7- جميع أنواع الوقود الأحفوري لأول مرة في النص الختامي

أخيرًا، كان النجاح الذي أنجزته رئاسة مؤتمر COP28 بالتوصل إلى أول اتفاق في العالم للتحول بعيداً عن جميع أنواع الوقود الأحفوري، نتاج ماراثون شاق من المفاوضات على مدار أسبوعين.

بذلت الدبلوماسية الإماراتية جهدًا استثنائيًا في أيام المفاوضات الأخيرة للوصول إلى توافق، وعدلت لغة القرار النهائي في محاولة لإرضاء جميع الأطراف، شمل ذلك الاتحاد الأوروبي الذي يدفع في اتجاه الابتعاد عن الوقود التقليدي، والدول النامية الكبرى مثل الهند التي تعتمد على الفحم، والدول الأقل نموًا التي ترغب في الحصول على التزامات بالدعم المالي لتنفيذ التحول، مع وضع ظروفها الاقتصادية في عين الاعتبار.

وباستخدام ثلاث كلمات رئيسية، هي: "التحول بعيداً عن" الوقود الأحفوري بدلاً من "التخلص التدريجي"، نجحت الرئاسة الإماراتية في الوصول بالمفاوضات إلى بر التوافق، وسجلت هدفًا تاريخيًا في مباراة تفاوضية صعبة، انتهت بدموع وأحضان، وسط احتفالات المفوضين المنهكين بإنجاز مهم في معركة العالم ضد تغير المناخ.